«7»مداخلات حول دور «أبو الفنون» في حماية البيئة

قدّم الملتقى الفكري المصاحب للدورة “32” من أيام الشارقة المسرحيَّة، الذي جاء تحت عنوان «المسرح والبيئة»، ونظم صباح ونهار يوم الثلاثاء 14 مارس،سبع أطروحات لاقتراح أفق مغاير للمسرح في تعاطيه مع منظومة البيئة واستدامة المحافظة عليها، وشهدت جلسات الملتقى التي أدارها الفنان الإماراتي عبد الله مسعود، دسامة في الطرح، وعمقاً في الرؤى، أثرتهما أوراق كوكبة من الباحثين بمقرّ إقامة الضيوف.

في ورقته الموسومة “من المسرح البيئي/الإيكولوجي إلى المسرح الإيكوصوفي”، قارب د.فهد الكغاط  (المغرب)، حزمة منطلقات، صيغ وقضايا نقديَّة بيئيَّة، وانطلق من توسيع نطاق دلالات مفهوم “الخيال البيئي” إلى مفهوم الخيال في عروض المسرحالبيئي أو الإيكولوجي، وفنون الأداء المرتبطة بالبيئة وقضاياها.

وبحث الكغاط في العلائق الممكنة بين الإنتاجات المسرحيَّة والمتطلبات البيئيَّة، محدّداً أنماط المسرح البيئي (مسرح بيئي تعليمي، مسرح بيئي تحريضي، ومسرح بيئي جمالي)، وانتقل إلى الممارسات المسؤولة بيئياً على المستويين الماكروبنيويوالميكروبنيوي، التي من شأن الفرق المسرحيَّة والمؤسسات المديرة لشؤون المسرح، الاهتمام والأخذ بها في السيرورات الإبداعيَّة، وصيغ إنتاج وتقديم العروض المسرحيَّة.

وتطرقالكغاط إلى مفهوم حديث جداً في النقد المسرحي البيئي، يخصّ “المسرح الإيكوصوفي”، وما يستدعيه من تصورات وقضايا جديدة تماماً، متصوراً أنّ الاشتغال على الأشكال يتطلب المواد الجديدة في مسرح فلسفة البيئة، وهو مسرح متصل بالبيئة التي لا ننظر إليها بل ننغمر فيها.

إعادة اكتشاف المسرح الملتزم

أشارت د.دينا أمين (مصر)، في ورقتها “مسرح البيئة والمسرح الملتزم” إلى أنّه من المفارقات الغريبة أنّ فكرة إنشاء “مسرح ملتزم” جاءت من الفلسفات الوجوديَّة، أو أفكار مسرح البرج العاجي في منتصف القرن العشرين، والآن نجد أنفسنا ننادي بأهميَّة المسرح الملتزم بمفهومه المجتمعي، ليساعدنا في فهم وتخطي أزمة وجوديَّة حقيقيَّة ووشيكة،فحواها “أن نعيش أو نموت جميعاً”.

وأحالت د.دينا أمين إلى أنّ دفاع العرب تاريخياً عن المسرح الملتزم، اتكأ على مقاومة الاستعمار وترسيخ العروبة ودعم أو فضح الإسلام السياسي، ثمّ التعليم، ومحاربة قضايا التهميش الاجتماعي، مثل الفقر وحقوق المرأة، أو أزمة الهويَّة في مواجهة العولمة، وقضايا الهجرة والتهجين، قبل بروز معضلة الانخفاض المتزايد في الموارد الطبيعيَّة على كوكبنا، والتغيرات المناخيَّة الخطيرة المؤشرة على تدهور الأحول البيئيَّة في عالمنا.

وفي مقابل تأكيدها أنّ المسرح الملتزم هو السبيل المنشود لتعزيز الوعي العام، نوّهت إلى أهميَّة المسرح البيئي ومسؤولياته الاجتماعيَّة والدوليَّة، منذ ظهوره بصفته حركة فنيَّة محدودة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وقيام الفنانين المسرحيين البيئيين بمناقشة القضايا البيئيَّة، بحسبانها أكثر شمولاً لأشكال الاضطهاد الأخرى مثل العنصريَّة وقمع الطبقة الدنيا وسياسات الهجرة والإمبرياليَّة والعدوان، وتطور الحركة باتجاه مكافحة اللامبالاة العالميَّة، والجشع الرأسمالي تجاه التدهور البيئي.

وركّزت الباحثة على وجوب عمل المسرح البيئي عربياً على مستويي نشر الوعي، والدعوة إلى النشاط التفاعلي على جميع المستويات، مقترحةً إنتاج وتقديم المسرحيين قصصاً تدور حول مواضيع الإساءة إلى الأرض، الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري وانبعاثات الغاز واستخدام البلاستيك، مشدّدة على انتفاء جدوى تقديم وعي اجتماعي من دون اهتمام مزدوج بين منتج الفن ومتلقيه، ما يستدعي عمليَّة مستمرة من العصف الذهني الجماعي، ورسم مراكز الفكر المسرحيَّة مستقبل دور المسرح في القضايا البيئيَّة.

المسرح البيئي.. نموذج لتقديم الاستدامة

في ورقته “المسرح أمام التغيّر المناخي”، أشار د.جورج مطر (لبنان)، إلى أنّهوسط ما هو جار حول التدهور البيئي وتداعيات الاحترار العالمي، واختلالات التوازن البيئي، يكمن دور المسرح في لفت الانتباه، نشر الوعي، ترسيخ الإيمان والقناعات والشعور، وأن يكون مثالاً يُحتذى به في تقديم الاستدامة.

وذهب مطر إلى أنّه وسط التغيّر المناخي الذي تشهده الأرض وتداعياته الكارثيَّة على التوازن البيئي الحاضن لسلامة حياة الإنسان والعديد من الكائنات الحيَّة، تبرز جدوى المسرح بمختلف أشكاله وتقنياته،في الإسهام بإيقاف التدهور المناخي والتأسيس لحالة مواتية أمام الطبيعة لإعادة التوازن إلى نفسها، وسلوك درب التعافي.

وسجّل الباحث أنّ المسرح بما يمتلكه من سلطة تواصليَّةاستثنائيَّةتجاوزيَّة، يستطيع أن يحقّق التغيير المرتجى في المجتمع وعبره في البيئة، لما يحظى به المسرح الذي يُحدث أثر الإيهام والمسرح التعبيري من إمكانات إبداعيَّة هائلة،وأشكال متنوعة ومبتكرة في مخاطبة الفكر، ووضع المتلقي في حالة من التأمل حول الموضوع المطروح، لدفعه نحو تكوين رأي ناضج وقناعة ذاتيَّة،أو حتى في المقدرة على إحداث كِلا الأثرين معاً، عبر نماذج المسرح التحريضي،والمسرح المخفي، ومسرح الفوروم،أو مختلف أشكال مسرح المقموعين وغيرها.

ولفت مطر إلى القدرة الهائلة لمختلف أشكال المسرح على الترويج للخيارات الصديقة للبيئة، وتكوين رأي معادٍ للتلوّث البيئي، ونشر التوعية والتحريض الفعال (سواء أكان على المستوى الفكريالذهني أم الفطريالغريزي) على تبني سلوكيات وممارسات مساعِدة في الحدّ من التغير المناخي، ورسم سيناريوهات حول كيفيَّة مواجهة تداعياته والكوارث الناجمة عنه، داعياً إلى ممارسة ذلك تصويرياً وتعبيرياً وإبداعياً وتفاعلياً، وليس بالخطاب الوعظي والنقاش التجريدي.

تعميق المفاهيم

قدّم د.محمد شيحة(مصر)، في ورقته “المسرح البيئي.. أبعاد جماليَّة ورؤى فكريَّة”،ثلاثة محاور، تضمّن الأول الكثير من المصطلحات والمفاهيم المرتبطة بالطابع الاحتفالي للمسرح، مركّزاً على إسهام المخرج والمنظّر الأمريكي ريتشارد شيكنرفي “المسرح البيئي”، كما انطوى المحور الثاني على دعامة الأرشفة لتوثيق التراث المسرحي بهدف التأصيل والتأريخ، مشيراً إلى أنّ حفظ مثل هذه الأعمال يعد مادة خصبة للباحثين والمبدعين، ويؤدي إلى حمايتها من كافة المخاطر البيئيَّة.

وفي المحور الثالث، رافع شيحة لمسرح الطفل تبعاً لارتباطه بالبيئة، وحاجة الطفل مثل البالغ إلى رؤية الواقع في الأعمال الأدبيَّة والفنيَّة، وربطه ببيئته وتوعيته بوسائل المحافظة عليها وحمايتها، مع مراعاة طبيعة المراحل العمريَّة المختلفة للأطفال المتلقين، بجانب إبرازه دور المسرح المدرسي في هذا الخصوص.

وتجوّل شيحة بالحضور في مسارات المسرح الاحتفالي الطقسي، وشروط مسرح البيئة المحيطة، مشيراً إلى نماذج: مسرحيَّة “قناديل البحر” لنصيرات خليل (2012)، و”صمت المكانس” لفهد ألحارثي (2014) و”حواديتالأراجوز” لرندا إبراهيم (2014)، وجميعها حثت على تحصين البيئة ضدّ أي تلويث، وتعزيز القيم الجماليَّة.

تجربة عمليَّة

في ورقته “فاعليَّة المسرح في رعاية البيئة واستدامة المحافظة عليها”، أشار د.علي محمد سعيد (السودان)، إلى تجربة قوافل التوعية البيئيَّة منذ العام 2001 للجمعيَّة السودانيَّة لحماية البيئة، وهي أهم منظمة مجتمع مدني محلياً، التي اختارت فن المسرحلتحقيق أهدافها، واستعانت في تجاربها بمسرحيين ممارسين من خريجي وطلاب “كلية الموسيقى والدراما”، وأطفال، وغير ذلك، وراكمت خبرات كبيرة.

وأشار سعيد إلى توظيف تجربة قوافل التوعية البيئيَّة لمسرح العرائس، ومسرح الشارع المعتمد على الارتجال، الذي استوعب نصف سكان قرية”حلة بابكر”على سبيل المثال لا الحصر، مضيفاً أنّ القافلة تطرقت إلى غلاء الفحم واختفائه من السوق، وغلاء الحطب، وذلك لندرته في العرض لصالح شيوع استخدام الغاز، وأسهم المسرح في دفع قيم المشاركة الإيجابيَّة وتعميق مفاهيم المشروع.

وأحال سعيد إلى تجربتي التواصل البيئي، ومشروع الحي الصديق للبيئة، متوصلاً إلى أنّ ذلك أكّد فعاليَّة المسرح في رعاية وحماية البيئة واستدامة المحافظة عليها، وعليه أوصى الباحث بإعداد ونشر وتوزيع منهج تقني متطور لتدريب المسرحيين على التعامل معحقل البيئة، وأيضاً تصميم منهج لتدريب المدربين وتمليكه لجهات الاختصاص، كما رافع لتبني مسودة معاهدة “مسرحيون من أجل البيئة” والتوقيع عليها من قبل مؤسسات المسرح المحليَّة والإقليميَّة والدوليَّة، ورعاية صياغة بنودها وواجباتها، فضلاً عن استكتاب النقاد ونشر كتيبات تحوي توثيق وتحليل تجارب المسرحيين في موضوع البيئة، مع الاهتمام برصد ملامح التقنية المستخدمة وآفاق تطويرها، وتأطير التنظير لمنهج خاص بالمسرح البيئي بوصفه فرعاً قائماً بذاته ضمن تيار المسرح التنموي.

براديكم التفكير والسلوك والتخييل والخطاب

تناول د.حسن يوسفي(المغرب)، في مداخلته “المسرح والبراديكم الإيكولوجي: مساءلة جماليَّة”، زاوية الثقافة العامة اعتباراً لحضور البيئة في المتخيل المسرحي، شأنه شأن مختلف التعبيرات الأدبيَّة والفنيَّة، كلما تم تناول عنصر يتعلق بالطبيعة بشكل عام.

ومن زاوية المفاهيم، مايز يوسفي بين بعض أنواع المسارح التي تسمى “بيئيَّة” لكنها ليست ممتلئة بهاجسالقضيَّة البيئيَّة، مستدلاً بالمسرح البيئي لـريشار شكنرومسرح البيئة لـديميرس.

وفي الشق المتعلق بزاويةالبراديكمات، عد الباحث الانخراط الكوني في قضيَّة البيئة، حوّلها إلى براديكم في التفكير والسلوك والتخييل والخطاب، تبعاً لتشكّلها بصفة حالة وعي تتفاعل معها كل أشكال التعبير الأدبي والفني بما فيها المسرح.

ولاحظ يوسفي أنّ المسرح ضمن الإبدال الإيكولوجي، أفرز تجارب عالميَّة مهمة، تناول أصحابها قضيَّة البيئة عبر مسرَحتهم كوارث طبيعيَّة عرفتها البشريَّة، لذا قدّر أنّ المسرح من أكثر الفنون الجديرة بتمثيل قضايا بيئيَّة، مادامت مادته هي سلوكيات الناس ومواقفهم، ومادامت البيئة حالة متصلة بالطبيعة وبالسلوك البشري أيضاً.

ورأى يوسفي أنّ المسرح بوصفه فناً يخاطب الجماهير، يمكنه أن يكون مدرسةً للمتفرج لتحسيسه بالسلوك المسؤول بيئياً،وللمبدع أيضاً باعتماد آليات في الإبداع صديقة للبيئة تعتمد ثلاثيَّة: التقليص، إعادة الاستعمال، والتدوير، مخمّناً أنّ السينوغرافيا المسرحيَّة من أكثر الممارسات المعنيَّة بذلك.

المسرح البيئي.. صلب الثقافة

في ورقته “المسرح البيئي.. هل هي صرخاتنا المنسيَّة؟”، ركّز الكاتب والباحث محمد المي(تونس)، على أنّ التفكير في البيئة المسرحيَّة أتى انطلاقاً من تصور قدرة الفعل الإنساني على التأثير في المناخ والقدرة على تغييره، وأبرز المنظور الفلسفي للفعل الإنساني، ومحرّك الإنسان هو موجبات الفكر، لذا فالربط بين المسرح والحياة، لا يجعل المسرح مجانباً لها، بما يفرض عدم سجن المسرح في الأطر المغلقة، وهو ما مارسه الفرنسيجان فيلار عبر مسرح شعبي غلّفه بصرخة “ما زال ضرورياً أن ندع المسرح يتنفس”.

وذكر المي أنّ بلورة الأمريكي ششنرلدعوات الخروج إلى الفضاء الخارجي، وإقراره التخلي عن فكرة النص المعدّ سابقاً، مثّل أساس المسرح البيئي، وتموقع الجمهور صانعاً للمشاهد المسرحيَّة، وهو ما كرّسه الكاتب البرازيلي أوجستو بوال ضمن “مسرح المقهورين”.

ولاحظ الباحث أنّ جماعة المسرح البيئي استعاضت عن اللغة بوصفها نظاماً إشارياً يمكن أن يشكّل معوقاً تواصلياً، غير أنّ كل تلك المحاولات لم يُكتب لها النجاح – بحسب المي – الذي أشار إلى محاولة عزالدين المدني الخروج عن المألوف منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، من خلال مسرحيَّة “ديوان الزنج”، وافتتاحها ببيان “استعمال الفضاء المسرحي”، وعثوره على ضالته في علي بن عياد ومسعاه لخلق مسرح شعبي.

وخلص المي إلى أنّ دعوة المسرح البيئي ليست دعوة إلى الخروج من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة، بل هي في صلب الثقافة، ولكنها ممارسة حرة متزامنة مع فرض فن الشارع نفسه، وخلق أجيال جديدة صاغت وجدانها الملتيميديا والإلكترونيات.

هذا وخلص الملتقى إلى بيان ختامي تنشره «الأيام» في عددها ليوم غد.

لقد فاتك قراءة